أجنحة جبران المتكسّرة

   في عهد الدراسة، وفي أحد أيام الصيف من العام 1931، طالعتُ رواية "الأجنحة المتكسّرة" "لجبران خليل جبران"، وأنا قاعدٌ في ظلال الدوالي وشجر التين، استنشق عطر زهر العناقيد، وأريج الوزّال المتّشح بالعقود الصفراء، وليس لي من أنيس سوى "الرواية" التي أكبَبْتُ على قراءَتها، وزقزقة بعض العصافير المتنقلة بلا وجل، بين الأفنان، وطنين النحل المحوّم حول الأزهار لارتشاف رحيقها، الذي تجني منه شهدها، وعند الفراغ من المطالعة طويتُ صفحات الأنيس قائلًا:

   للهِ دَرّك "يا جبران"، يا جار الأرز الخالد، ما أطهر روحك وما أعزَّ نفسك وما أشجع فؤادك، تباركتِ الأرضُ التي أنشأتك، والمياه العذبة التي سقتكَ، والهواءُ النقيّ الذي تنشّقته رئتاك، فامتزج بدمك فطهّرك وأرهف حسَّك وعواطفك، فصيّرها عواطف إنسانيّة خالدةً، كخلود الأرزات المجاورة لبلدتك "بشرّي"، لا يشوبها شائبةٌ ولا تكدّرها بيئةٌ، كما ذكرت، فاسدة فسادًا نسبيًّا، ولا يقوى على نزعها تيَّارُ بعض العادات الجارف بيننا.

   أنت عظيمٌ يا جبران، لأنك تحبُّ الجمال، هبةَ المكوّن، أنت عظيم لأنّك تعبد الحقيقة، أنت عظيم لأنّك تقدّس الحرّية، أنت مثل أرزك الشامخ في حضيض "فم الميزاب"، كنت عظيمًا في حياتك والآن، لا تزال عظيمًا في لحدك، وقد انتقلت روحك الكبيرة إلى عالم قد يكون أسمى من عالمنا، السابح في خضمّ هذا الكون اللامتناهي؛ سقى الله تربة مثواك الطاهر بماء الخلود!

   سهرت وعيناك على الإنسانية المتألّمة، تحاولُ إزالة الألم وأنت حيّ، وكنت أمثولةً أبديَّةً لها بما خلَّفته من آثار، نفثّتَ قلمك المعبأ بمدادٍ من قلبك، وخلقت روحًا جديدة يحتاج إليها بنو قومك قبل سائر الأقوام؛ تحتاج إليها المرأة الشرقيّة المستضعفة، ويحتاج إليها الشاب المتحيّر، الذي يئنّ من نقص في حريته الكاملة، لا بل يحتاجها الشعبُ بأسره، فهي تجبر جناحيه المهيضين، فتمكّنه من أن يرفرف ويطير ثم يحلّق في سماء بلاده المتعبة، إنّها الروح التي تُنقذ الناس من التقاليد الضارّة، الثائرة لنزع التعصّب الطائفيّ البغيض، الذي سبّب انقسامنا، وهدَّد كياننا، وهبط بنا إلى هاوية العبوديَّة والضعف، فتملّكنا -(القابع على ضفاف "البوسفور" وبعده الآتي من "باريس" القابعة على ضفّتي "السَّان" والدالف من "لندن" المستلقية على شطآن "التَّايمز")- روح النهوض بالمرأة نِصْفِ الإنسان، إلى مستوى تقدر فيه أن تعاضد نصفها الآخر الرجل، وتدفعه إلى الجهاد، لتحرير بلاده، وتهذيب أبنائها وبناتها؛ تلك الروح فيك سماويّة، هي روح الملائكة الأطهار المثاليّة، الروح التي يريدها الله مبدع الكون أن تسود بين عباده، وقد شوّهها مدَّعو تمثيله على الأرض، وأهانوها بأعمالهم، وكرّموها بألسنتهم لا غير، ولم ترنُ منها قلوبهم، وانقلبوا أيَّ منقلب، وتحوَّلوا من رعاةٍ، من المفترض أن يكونوا للإصلاح والخير، إلى رعاةٍ طالحين لا يأبهون كثيرًا لمصلحة الرعية، بل همّهم، ويا للأسف والخيبة، تأمين نفوذهم الشخصيّ والسيطرة على الشعب، الذي عُدَّ في نظرهم، كالقطيع من الماشية، وهو الطيب الساذج؛ واستثماره وإفساده، ولو أنصف القدرُ، لما أطال لهم الحبال حتّى يسرحوا ويمرحوا، بل حاسبهم حسابًا عسيرًا على الأرض، قبل قيام الساعة التي يؤمنون بها، على تصرّفاتهم العوجاء الظالمة، ليكونوا عبرةً لمن اعتبر، وأذاقهم سعير النار التي تلذعهم ألسنتها الحامية!

   فاسهر يا مصلح، "يا جبران الخير" وأنت ترقبنا من الملأ الروحيّ الأعلى على هذا الشعب، شعبك المتألّم، الرازح تحت نير الطغمة التي نُصِّبتْ علينا كأولياءَ، وأسميتها أنت في "أجنحتك المتكسّرة"، طغمة "شياطين وأفاعٍ"، تنفثنا بأنفاسها الموبوءة، "وضوارٍ تدوسنا" بأظلافها وتنهشنا بأنيابها!

   وأوحِ إليه بأن يثور على أهل البطل والطمع، وأنت في كرسيّك السامي حيث لا خوف من شر الطغمة وخطر سمومها القاتلة!

   وابعث في نفسه قوةً تقاوم هذا الخطر على الأرض وتنجّيه، وتمهّد له طريق السماء التي تقطنها روحك العالية!

   بكنزك الأدبيّ وبكنوز أمثالك القليلين، من بني العرب تحيا البلاد، إذ إنّها تشكّل خميرة مباركة ينبغي أن يَمْزُجَها الشعبُ في عجينه كي تختمر، فتعطي الخبز الصالح، إنّها الجرثومة السليمة التي يلزمنا أن نعتني بها ونغذّيها كي تُخرِج لنا بذورًا، تُزرع في أرض لبنان وفي سائر البلدان الشرقيّة عامةً، والعربية خاصةً.

   يا "رُوسّو" و "فولتير العرب"، يا باذر حبوب اليقظة، والانتفاض على ما هو رجعي مؤذٍ، سوف تسمع عما قريب إن شاء الله، من كوَّاتِ سمائك، هدير أصوات بني قومك، في ثورتهم الفكريّة والاجتماعية، التي كنت، أنت يا جبران، في طليعة من أوحى بها ونشرها، إنّها الثورة التي نؤمّل أن تطهّر نفوس مواطنيك، الطيّبي الأرومة، من كلّ دنسٍ وشرٍّ وفساد، وتغرس فيها روح المحبّة، روح الله الحقيقيّ، وتنبذ نواة الطائفيّة المقيتة، بنت الجهل والطمع، كي يحيا الوطن وينهض ويبدد الظلمة، ليحلّ محلّها نور الحرية، ضالّة كلّ مخلصٍ حرٍّ!

                                            يوسف س. نويهض

                                   في صيف العام 1931م